"وحيداً، كغُصنٍ مكسورْ ..
واشتاقَ للطيورْ .. !!"
لم يرني أحد
أنا المصلوب فوق
أعمدة النور النائمة ..
أنا،
شريدُ الليالي القاتمة ...
لم يسمع صوتي أحد
فأنا الوحيد المحاط
بكلّ الراحلين ..
لم يقتربْ منّي أحد
فثيابي لا جيوبَ فيها
أنا الجثةُ التي تجوب البلادَ
بحثاً عن بلاد
أنا المنفي إلى مقبرة الغرباء ..
أنا الذي حملته الغيوم فسالَ
- بعدما سقطَ - في شوارع المدينة الحزينة
الحمراء من سيل الدماء ..
أنا، بكاءُ السماء ...!
لم يكلمني أحد
فألسنتهم مقطوعة
أولئك الذين حين اغتابوني
نبتتْ من أفواههم مناشيرُ
وقطّعَتْني
أنا الرجل الشجرة،
بارداً كان بيتنا
والموقدُ خالٍ من أَثاثه
وأُمّي قربه
جالسةً
تمثّلُ الدفءَ
أمام إخواني
وبرداً تعاني
أنا الجذع الذي رمى نفسه
فأحرقوه فانتشى
أنا الذي
من الدفء عرفتني أُمّي
أنا الذي حين احترقتُ زالَ همّي ...!!
كنتُ لحناً في ثغرِ حبيبتي
كلّما غنّتْ،
بطلَ روايات المراثي صرتُ بعدما جُنّتْ!!
أنا حبيبها
ونحيبها ...
كنتُ جدارَ صاحبي
كلّما خارتْ قِواه ..
صاحبي الذي سقط قتيلاً
فطارَ
فانهارَ الجدار ... !!
أبي
ثوبُ العراةِ
وخبزُ الجياعِ
ودارُ اليتامى
يقولُ لي:
من دموعِ أُمّكَ أَصبحتُ أُحصي ضحايا الوطن
أنا الذي هجرتُ نشرةَ الأخبارِ
وسكنتُ دموعها
فإذا بي بينَ آلاف النازحينَ
أشكو الحنين ..!!
يقولُ نزار:
"الحرية سيفٌ لا يَقطعُ إلا بيدِ الأحرار"
يا للعارِ يا نزار،
رؤُوس الأحرارِ تُقْطعُ في وضحِ النهار ..
"لا تغرّنكَ اللّحى والصورُ، تسعةُ أعشارِ من ترى بقرُ"
قالها ابن لنكك البصري
.
.
.
وأنا في الشوارعِ أمشي،
- حاملاً أحبتي الذين رُحِّلوا -
في قلبِ نعشي
رأيتُ لحىً وعمائمَ
ترتديها مؤخراتُ أشباه رجالٍ
ظنّ البعض أنها رؤوسُ أموال الجنان ..!
(آدمُ ما ماتَ
ولا الشيطانْ ..
لم يقطفْ أحدٌ تفاحاً
قطفَ الإنسانُ البستانْ)
ورأيتُ راياتٍ تحملُ شعاراتٍ
يدّعي حاملوها أنهم:
أصحابُ الألويةِ التي تقودُ
إلى الله
فنظرتُ إليهم بعين قلبي
على طريقةِ الحلاج،
لكنّي لم أُبصِرهُ معهم ..
أنا الذي أَبصرتُ الله
في المخيماتِ ودروبِ النازحين ..
أنا الذي أَبصرتُ الله
في السجونِ التي وقّعَ المدانون فيها
على جرائم قُتِلوا فيها ..!
...
وفي المشافي
لمحتُ الله كثيراً
ولم أقوَ على النظرِ إليهِ طويلاً
في عيونِ طفلٍ
ينظرُ
إلى
أعضائهِ
المبتورة ..!
كزهرةٍ منثورة ...
أنا حدّادُ السيوفِ الذي
حينَ مضى في دربه
نثرَ يديه بذوراً على الأرضِ المقفرة
فأمطرتِ السماءُ أغلالاً ..!!
لم تكنِ الأمطارُ غزيرة
لكنْ
ما سقى عطشي أحد ...
فالكلّ كان منهمكاً
يدلّ الغيومَ على بساتيني
ليبتاع قيداً
يطوّق به أخيه ومن والاه ...!!
"كيفما تكونوا يُوَلّى عليكمْ"
قالَ رسول الله ..........
أنا الذي اخترتُ خُطايَ فاختارني طريقي
منذُ اثْنَي عَشَرَ عامٍ وأنا
كمقبرةٍ
تنزفُ موتاها ..!!
تبحثُ لهم عن حياة
كلما هاجتِ الذكريات ...
منذُ الجريمة الأُولى
بعد السقوطِ الذي
مازلتُ أَنتظِرُ ارتطاماً
يوقفُ ديمومته
مشيتُ
وأنا
أنزفُ
دماء
العم نزار
وابن عمتي محمد
وصديقي أيوب
وابن عمي أحمد
وابن عمي حمزة
وابنة جاري دعاء
وابن جيراننا "نيفو"
وصاحبي مصعب
وأنا ما زلتُ
ثياباً
لأُختيَ الكبرى
وباباً
لبيتِ أُختيَ الأُخرى
أنا الغابة التي هجرتها الأشجارُ
خوفاً
من فؤوسِ الحطّابينَ
وحرائق الغادرين ..
أنا الغابةُ التي نزحتْ
تاركةً أشجارها
وراءها ...
كـ "أعجازٍ نخلٍ خاوية" ...!
أنا الغابةُ المهجورةُ المُهجّرَةُ البالية ...!
أنا الذي نبتُّ في الغربةِ
حينَ زرعتني حبيبتي بيدَي قلبها الكريمتين
روحاً تنعمُ بالحبّ رغمَ الحربِ ..
حبيبتي، الأسيرةُ التي حررتني
البعيدةُ الأقرب
الميناء الذي أغرقُ كلما أبحرتُ إليه،
فينتشلني بيَدَيه ...!!
مِرآةُ الطفولة
التي لولاها لتجعّد وجه قلبي
رسولةُ الحبّ في زمنِ الحرب
التي أصابعها أغصانُ زيتون
التي كادَ يقتُلُني العطشُ
لولا أنْ جاء:
صوتُها الماء ..
أُنثاي التي هي:
نِسياني
و ذاكرتي
و نَيساني ...